18 - 09 - 2024

مدينتي الفاضلة| جينات استشهاد لواء ياسر عصر

مدينتي الفاضلة| جينات استشهاد لواء ياسر عصر

لحظة نزول اللواء "عصر" إلى الهٌواية المشتعلة بمحطة مترو مسرة لإنقاذ عشرات الأرواح، احتضنت المحطة روحه النبيلة، وباستشهاده أصبح اسمها محطة الشهيد ياسر عصر.. كانت مسئوليته إصدار أوامر حفظ سلامة ركاب النقل والمواصلات، لكنه أسرع للمرة الثانية في حياته للموقع مشتبكا مع النيران لإخمادها، بعدما أنقذ مئات في 2016 قبل امتداد حريق بعربة القطار 1551 القاهرة طنطا.. وانسحب بنفس راضية مرضية، تاركا وسام فروسية التضحية لشرطة المواصلات، ومؤكدا أصالة صفات "الشهامة والاستشهاد" في جينات المصريين.

الحزن على استشهاده البطولي له رجفة استشهاد القديسين التي يعقبها سلام!! أعاد لسمعي أنين شريفة فاضل وسط حرب أكتوبر 73، وهي تنعي ابنها الطيار ملازم "سيد سيد بدير" بمرثية تناجيه، وتتوسل من السماء نظرة للأم تُطَيب روحهما.. سالت كلمات نبيلة قنديل دموعا ملتهبة على أوتار الكمان، تفتح مسام قلب الأم المكلوم "إبني البطل/ اتربى وشبع من خيرك/ اتقوى من عظمة شمسك/ اتعلم على ايد أحرارك/ اتسلح بإيمانه واسمك/ هد الجبال/ عدى المحال/ زرع العلم/ طرح الأمل".. فتجاوزت الأغنية مرثية تحيي الحدث إلى مصل يعزز الانتماء والتضحية، بلحن من -على إسماعيل- له وقع سنابك خيول الحرب على قلوبنا كلما سقط شهيد. 

استشهاد اللواء عصر، فتح جُرح 4 قرون من تاريخ مصر محذوفة من مناهج تاريخنا عكست الحقائق!! هي فترة حكم الرومان "الوثنيين"، واستشهاد مئات آلاف مصريين لتمسكهم بعقيدتهم المسيحية!! فظاعة أساليب التعذيب والقتل أنبتت للمسيحيين تاريخا آخر هو "تاريخ الشهداء" وبدأ بأول الشهداء القديس استفانوس - عام 35 م - رجمه اليهود في رام الله بالقدس، وانتهى ببطرس خاتم الشهداء 284م.. الاحتلال الروماني لمصر بدأ بهزيمة الاسكندر وكليوباترا 31 ق.م وانتحارهما، وكانت الإمبراطورية الرومانية هي الأقوى والأوسع امتدادا في العالم، أقامت ثكنات عسكرية في مصر من اسكندرية لأسوان، وذاقت مصر الويلات 400 عام، انقسمت فيها إلى 3 أقسام يحكم كل منها " دوق"، وتعاقب على حكمها 27 امبراطورا و  86 وليا رومانيا كان يتم استبدالهم سريعا خوفا من غدرهم والاستقلال بمصر، فأهملوا مصالح البلاد ونهبوها، وحرموا المصريين من الجيش خوفا من تجميع صفوفهم لمقاومتهم.. اقتصرت السلطة والإدارة والوظائف على الرومان واليونانيين واليهود المقربين.. وفرضوا أنواع ضرائب طالت الموتى للسماح بدفنهم!! وضرائب على امتلاك حيوان، وعلى الأرض الزراعية، والحدائق، وأي تجارة، والبضائع قبل خروجها من المصانع، وعلى الحمامات العامة، وأثاث المنزل، وضرائب لبناء تماثيل ومعابد وثنية للإمبراطور!! ومن يمتنع يحفر ويطهر الترع بالسخرة.. وفرضوا تزويد جنود الرومان بالحبوب لغذائهم، وبعلف الحيوان كلما مروا بقرى مصر.. اغتني الرومان بالجباية وافتقرت امبراطوريتهم الممتدة، وأصبح عليهم إعالة شعوب غفيرة أنهكتها السلطة.

في بداية حكمهم أباحوا حرية العقيدة وفرضوا الوثنية، حتى وصلت المسيحية من فلسطين إلى مصر في نصف القرن الميلادي الأول على يد القديس مرقس، وانتشرت من الوجه البحري بالإسكندرية إلى الصعيد في القرن الثاني الميلادي، فصبوا العذاب على المسيحيين لانشقاقهم عن الوثنية كدين رسمي للدولة.. طاردهم نيرون وعذبهم في السجون، ثم تفاقمت قسوة التعذيب في عصر دقلديانوس، من محاولة حرقهم في أتون نار، لإلقائهم لوحوش جائعة، سلخ الأجساد، والجلد والذبح.. حرقوا الكنائس والكتب المقدسة، أعدموا الكهنة وصادروا أملاك المسيحيين وكنائسهم وحرموهم حقوق المواطنة والوظائف الحكومية.. ففروا إلى  الكهوف وبنوا الأديُرة.. بدأ التمرد والثورات فنادى الامبراطور بتأليهه ولقًب نفسه بالإله لضمان خضوعهم واستمرار ملكه.

عصر الاستشهاد ضاعف انتشار المسيحية حتى وصل الامبراطور قسطنطين الأول (306 -395) وأصدر منشور ميلانو بإعلان المسيحية دينا رسميا للدولة، وشيدت أمه الملكة هيلانة كل كنائس القدس وكفنت أجساد آلاف شهداء مدينة اسنا بمحافظة قنا، الذين قتلهم الوالي أريانوس في يوم واحد حتى تًلُمت السيوف فذبحوا الفلاحين بفؤوسهم!! سقطت الدولة الرومانية 476 م على يد عمر بن العاص واستسلم الحكام فارين من حصن بابليون مقر حكمهم.. لكن استقر الاستشهاد في جينات المصريين. 

وتوالت عصور الاستشهاد، من الأمويين إلى الفاطميين حيث اعتبر الخليفة العزيز بالله أنه حاكم بأمر الله وأمر بجلد المقتول بعد تعذيبه ألف جلده!! حتى أسوأ عهود العباسيين (1166م 800 ش) بمن لقب نفسه الملك الصالح وأمر بحرق الرهبان!! وفي (ق17م) نادى السلاطين بعدم ركوب المسيحيين للخيل، أو لبس المراكيب، وبارتداء قفطان أزرق طويل للتمييز والاضطهاد!! أصبحت مصر طاردة منهوبة، مات الزرع وقلت الأكفان ووقع قحط وغلاء ووباء (الطاعون).

لكن عاشت مصر زاخرة بمئات أديرة تحمل أسماء شهداء مقاومة الوثنية، مثل مارجرجس وأبوسيفين ومارمينا، سيرهم مدونة بكتب السنكسار- التاريخ- القبطي وتحتفل الكنيسة القبطية يوميا بأعياد استشهادهم.

وأري أن استشهاد اللواء عصر لإنقاذ الأرواح، هو امتداد تاريخي لروح الاستبسال من أجل عقيدة الشرطة.. وأن حذف حقبة حكم الرومان من مناهج التاريخ، أوقع كثيرين في اعتقاد أن المسيحيين هم عبدة الأوثان، بينما هم ضحايا رفض وثنية الرومان، فوجب التصحيح لتحيا مصر أرض الأديان ومهد الحضارة.
-------------------------
بقلم: منى ثابت

مقالات اخرى للكاتب

مدينتي الفاضلة | مين قطع النور عن مين؟!